الرئيسية » المقالات » فروض الأمة
فروض الأمة
قرأت :51 مرة أرسلت لصديق :0 مرة أرسل لصديق طباعة
مجلة الأمة: 2010-04-15
فروض الأمة*
د.طه جابر العلواني
لعلماء أصول الفقه مصطلحات دقيقة، إلا أنَّ بعض تلك المصطلحات كانت لها ظلال سلبية تركتها، ومن تلك المصطلحات «فروض الكفايات»، وقد نجمت الظلال السلبيَّة عن هذا المفهوم بسبب تفسير تلك الفروض بـكونها: «الفروض التي إذا قام بها البعض سقطت عن الباقين»، ومثَّلوا لها بصلاة الجنازة، وقد أدَّى هذا التعريف إلى التواكل؛ لأنَّ كل واحد يرى أن الآخرين سوف يفعلون ذلك الأمر، والحق أن هذه الفروض لا تتعلق بالأعيان والأشخاص، بل تتعلق بالأمة بوصفها شخصيَّة معنويَّة؛ ولذلك فإنَّ هذه الفروض إذا قامت بها الأمة -ممثلة في بعض أبنائها- أجزأ ذلك ورفع عنها الإثم، وكسب القائمون بذلك ثواب تلك الفريضة. ومن هذه الفرائض الكفائيَّة ما لا يقوم بناء الأمة إلا بها؛ نحو أن يكون في الأمة أطباء وممرضون ومهندسون وصيادلة وعلماء في سائر فنون الحياة، ومتخصصون في الكهرباء والميكانيكا والحدادة والنجارة وقيادة السيارات والطائرات وإتقان الصناعات النافعة على اختلافها، والفلاحون القادرون على زراعة الأرض، والمهندسون الزراعيون، والعلماء القادرون على مقاومة الآفات الزراعية، والمهندسون الذين يبنون الجسور والقناطر ويعبِّدون الطرق، فهذه الأمور كلها تُعدُّ من فروض الأمَّة؛ ولذلك فعلى الأمَّة أن توفِّر من أبنائها كل هذه الكفاءات والمهارات، فإذا خلت أقطارها من هؤلاء فإنَّ الأمة تكون مسؤولة وآثمة -كلها- أمام الله تعالى؛ لأنَّها لم توفِّر القادرين على سدِّ هذه الثغور، كما لو أنَّها لم تبنِ المساجد التي تُرفع لله ويُذكر فيها اسمه، والمدارس التي يتعلم الناس فيها -باسم ربهم- القراءة والكتابة والحساب وسائر العلوم والفنون النافعة.
ولقد نصَّ كثير من فقهائنا على وجوب الهجرة من البلد التي لا تتوافر فيها المستشفيات والأطباء والمهندسون والبنَّاؤون والقضاة؛ لأنَّها لا تتوافر فيها شروط العمران، ويتعرَّض الإنسان فيها للخطر. والبلدان التي تقصِّر في توفير ضروريات الحياة للذين يعيشون فيها يُعدُّ ساكنوها مسؤولين مسؤوليَّة تضامنيَّة أمام الله حتى يوفروا هذه الاحتياجات، ومن المؤسف أنَّ كثيرًا من بلدان المسلمين تعتمد -في غذائها وكسائها وضرورياتها- على أقطار أخرى مع وفرة الأرض والمياه والأموال والطاقات البشرية... إلخ، فقط لو وُجد الوعي الكافي، والتضامن اللازم، والإرادة لدى تلك الشعوب لإنجاز هذه المشروعات الضرورية. وما أجمل ما قاله فقهاؤنا في تقسيم هذه الاحتياجات إلى «ضروريَّات وحاجيَّات وتحسينيَّات»، فإذا تعلَّقت الحاجة بواحد من الضروريَّات، فإنَّ مسؤولية الأمة تكون مسؤولية مضاعفة، والإثم عن التفريط يكون كبيرًا.
إنَّ العبادة مفهوم شامل، يبدأ بـ«لا إله إلا الله محمد رسول الله» ولا ينتهي إلا بإماطة الأذى عن الطريق، وتنظيف الشوارع، وتطهير البيئة أطعمةً ومياهًا وهواءً وزرعًا وضرعًا، فليت المسلمين ينتبهون ويلتفتون إلى هذه الأمور، وينظرون إليها على أنَّها أمور تندرج في «مفهوم العبادة»!! إنَّ «الحسَّ الحضاريَّ» جزء لا ينفصل عن «الحسِّ الإيمانيِّ»، و«الجمع بين القراءتين» أول الوحي وبدايته، ومن لا يجمع بينهما فإنَّه ينظر بعين واحدة ويعطِّل عينًا أخرى: «وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ» (الزخرف:36)، ليت الفضائيات -التي تشغل الناس بالفنون الهابطة، والدعوة إلى الخرافة، والترويج للشعوذة- توجِّه عنايتها -أو شيئًا منها- للتوعية بـ«فروض الأمَّة» والدعوة إلى إحيائها، والترويج لها، والحضِّ على القيام بها!!
لقد أُقنعت شعوب الأرض -في فترة وجيزة- أنَّ «الانتصارات الرياضيَّة» في الملاعب هي بمثابة «الانتصارات القوميَّة»، تُدَقُّ لها الطبول، وتُرفرف على صانعيها البنود، فماذا لو علَّمنا الناس أنَّ الانتصار على مرض من الأمراض، أو تحقيق الكفاية في سلعة ضروريَّة –مثل القمح أو القطن- انتصار قوميٌّ، وكرَّمنا مَنْ يحققون إنجازات في هذه المجالات تكريمًا مثل تكريمنا للاعبين البارزين، ألا يدفع ذلك الآلاف إلى الالتفات إلى هذه الفرائض والعناية بها؟ وإعطائها ما هي جديرة به من الاهتمام؟!! لعلَّ الإعلام والتعليم يصنعان شيئًا في هذا المجال قبل أن نتحول -رغم ثرواتنا وإمكاناتنا كلّها- إلى شعوب من المتسوِّلين العالميِّين، وبذلك نحفظ كراماتنا وماء وجوهنا، ليت... ليت!!
* هذه المقالة نشرت بمجلة الأمة بتاريخ 1 جمادى الأولى 1431هـ.
تاريخ ظهور المقالة على الموقع: 2010-06-24
أضف تعليق
*الإسم:
الدولة:
الوظيفة:
*البريد الإلكتروني:
*التعليق:
التقييم العام للمقالة تقييمك:
البحث
الرسائل الدعائية
الرئيسية | السيرة الذاتية | أخبار العلواني | المقالات | الكتب | الصور | اتصل بنا
جميع الحقوق محفوظة © لموقع الدكتور طه جابر العلواني